3 أكاذيب خطيرة في عالم المال وفقاً لمحافظ البنك المركزي البريطاني
لا تخرج الحقائق من فم الأطفال فقط، ولا من فم المجانين وحدهم.. ربما تخرج من أفواه محافظي البنوك المركزية غير المرائين وغير الخائفين على المصالح.
ففي خطاب جامعي ألقاه محافظ البنك المركزي البريطاني مارك كارنيه أواخر سبتمبر الماضي، ظهر جلياً كيف ان الرجل يتكلم بحقائق مقتنع بها من وحي خبراته والتصاقه بعالم المال طيلة عقود، وتلك الحقائق أتت في سرد مشوق لثلاث أكاذيب تسود عالم المال المعاصر، برأي كارنيه، الأولى عن امكان الاستدانة إلى ما شاء الله وكان، بلا مخاطر، الثانية متعلقة بأكذوبة ان الأسواق المالية تصحح نفسها بنفسها، والثالثة ان في الأسواق أخلاقا.
وقع هذا الخطاب كان كالصاعقة على رؤوس كل ما تروجه جامعات مرموقة مثل هارفرد أو تردده وزارات المال والاقتصاد حول العالم وما تزعمه المؤسسات المالية والاستثمارية والمصرفية.
الأولى
على نحو مدهش، بدأ كارنيه بمديح السياسة النقدية البريطانية خلال سنوات السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، التي وصفها بالمسؤولة ديموقراطياً وبالفعالة عملياً في حربها ضد التضخم.
لكنه استدرك بالقول: مع ذلك، لم تكن النتيجة ايجابية لخلق مناخ ماكروإقتصادي مستقر ومستدام، لا، بل اتت النتائج عكسية أحياناً.
كانت الديون تتعاظم تحت المياه الراكدة للأسعار (أسعار السلع والخدمات لا أسعار الأصول)، فالاستقرار الظاهري للأسعار كان يخفي مسخاً متمثلاً في وحش القروض الذي استفاق مذعوراً، وعلى نحو مدمر في 2008.
فالعوامل الديموغرافية النامية مقابل استقرار الرواتب الحقيقية (بحساب التضخم) للطبقة الوسطى التي استفادت من العولمة والتقدم التكنولوجي جعلت الديون تتراكم بسهولة، بفعل الابتكارات المالية (منتجات معقدة ومهيكلة)، وبالاستناد إلى الادخار الوفير لشرائح معينة غنية من الأفراد والمؤسسات.
وتحديداً هنا تكمن الأكذوبة الأولى التي تحدث عنها كارنيه، إذ قال: ثمة تواطؤ عم الأفراد والمؤسسات غذته فترة طويلة نسبياً من الاعتقاد بالاستقرار الماكروإقتصادي والأسعار النامية للأصول، جعلنا جميعاً نعتقد أن الاقتراض (بلا أي ندم أو خوف) ممكن وعقلاني.. وللمثال، فالصين التي مدحناها جميعاً وسعيناً للاستفادة من قوتها وإقامة شراكة معها والتصنيع فيها، تقترب الآن من الاستدانة بنسبة %200 إلى الناتج، لتبدأ المشاكل بارتدادات عالمية كما بات معروفاً.
الثانية
الأكذوبة الثانية هي أن الاسواق تتوازن وتصحح نفسها بنفسها، تلك هي الخرافة المركزية في العلوم الاقتصادية النظرية التي تقول: إن «قانون» العرض والطلب الذي تفرضه حرية المنافسة كفيل وحده بتوفير كميات عرض تقابلها كميات طلب متكافئة، بحيث نتمتع جميعاً بأفضل وأمثل استخدام للموارد المتاحة، وهنا الفخ الذي وقع فيه متخذو القرار.
يقول كارنيه: متخذو القرار «اتخذوا» بتلك الخرافة، خرافة أن عالم المال والتمويل ينظم نفسه بنفسه، ويصحح أخطاءه تلقائياً، إلا أن الواقع خلاف ذلك التطمين الساذج تماماً وخلاف ذلك التوازن المزعوم، فاللاتوازن يعم الاسواق جميعا، سواء اسواق السلع او اسواق العمل، وطبعا اسواق الاصول ايضا.
اما القول ان الاسواق تعيد توازنها بنفسها دائما فيحمل نتيجتين خطرتين:
1 ــ الاولى تكمن في عدم القدرة على التحوط من الفقاعات لاننا نعتقد انها لن تحصل وبالتالي لا نتوقعها، لان الاسعار وفقا للخرافة آنفة الذكر هي اسعار «عادلة».
2 ــ النتيجة الخطرة الثانية تكمن في الاعتقاد عند تقلب الاسواق ان هناك نقصاً او تشوها يقضي بخلق اسواق جديدة «لتسكين ألم» الاسواق القديمة او «لتكميلها».. وهذا ما يصفه كارنيه «بالتقدم الى الوراء بلا توقف»!.
فعندما نجد نواقص (أي دائما) نضيف اسواقاً اخرى وهكذا تتعقد الامور اكثر.
ويقول كارنيه: توازن الاسواق ليس موجوداً الا في الكتب والنظريات، لان الناس (كل الناس) غير عقلانيين بطبعهم ويخلقون اقتصادات «غير كاملة» وبالتالي لا يستطيعون الاحاطة الدقيقة بالاوضاع الاقتصادية التي يعملون فيها، وعندما يلجأون الى خلق اسواق جديدة تزداد الخطورة كما حدث مع اسواق المشتقات.
والمنتجات المالية المهيكلة ورهونات السوبرايم والمشتقات المالية المسماة تحوطية.. التي تضاعفت معها المخاطر ولم تنقسم كما وعدونا (ضرب بدلاً من قسمة).
ثم يذهب كارنيه بعيدا في تفكيك «معابد» العلوم الاقتصادية وهياكلها المقدسة القائمة على فرضيات انه باستطاعتنا التوقع، ويمكننا معرفة اتجاهات السير وأين ستصل مستقبلاً وبدقة، إذ قال: هذا محال وفقاً لواقع الحال، أي الواقع الذي نخلقه ونعمل فيه، الذي هو أقرب الى تقلبات المزاج والمصالح، مزاج ومصالح اللاعبين الاقتصاديين والماليين في الاسواق الخاضعة لغرائزية ما وفقا للعالم الاقتصادي الشهير جون مينارد كينز (1946-1883).
الثالثة
الأكذوبة الثالثة، يتناولها كارنيه بعد أن يستدرك مذكرا ببعض محاسن الاسواق التي هي برأيه مصدر ثروات وازدهار ونمو، وآليات للادارة.. لكنه يقول: ان تترك الأسواق لحالها ولنفسها سيكون بنتائج سلبية مثل المبالغة والافراط والتفريط واساءة الاستعمال والتجاوز. وهنا يدعو الى اعادة بناء اسواق عادلة وفعالة سواء المغلقة منها او المفتوحة. فالاسواق المالية على سبيل المثال باتت بقيم مجردة شبه وهمية ونسبية للغاية، وحيث تصرف القطيع يجرف نزاهة الافراد بطريقه. لذا، ولتعمل تلك الاسواق بشكل افضل عليها ان تحظى بموافقة المجتمع ورضاه عنها.
ما العمل؟
لاستعادة الثقة كارنيه يريد اسواقاً مسؤولة شاملة وليس نوادي مغلقة حكراً على شرائح معينة. يريد اسواقاً بمسؤوليات للاعبين العوام والخواص يعترفون بكامل تلك المسؤوليات عن كامل ذلك النظام.
ويضرب امثلة على ذلك التصحيح المسؤول فرض زيادات الرساميل، وضبط شروط الاقراض والاقتراض اكثر، والتراجع عن نظرية «اكبر من ان تقع» التي سادت لانقاذ مؤسسات مالية مخطئة او متلاعبة على حساب المال العام ودافعي الضرائب، والغاء الدعم غير المباشر للمؤسسات المالية.. ناهيك عن زيادة جرعات التنافس لتنفتح الاسواق على مصراعيها بتكافؤ فرص أكبر.. فأكبر للجميع.
ولمواجهة اكذوبة ان الاسواق تتوازن وتصحح نفسها يشير الى دور البنوك المركزية والهيئات الرقابية كلاعب كبير عند الضرورة والحاجة، بالتدخل المباشر.
اما لمواجهة اكذوبة ان في الاسواق أخلاقاً، فيشير مثلا الى اعادة تصحيح مبالغات رواتب كبار المصرفيين وكبار المديرين التنفيذيين، وتوضيح مسؤوليات هؤلاء أمام المساهمين والجهات الرقابية بقواعد الحوكمة الصارمة الى جانب القوانين المرعية الاجراء. ويدعو الى المزيد من القمع لردع المتلاعبين والغشاشين.
على صعيد متصل، يشير كارنيه الى ان البنك المركزي البريطاني فتح الباب لأي شخص يقترح اصلاحات يراها مناسبة. ويستقبل كل تلك المقترحات برحابة من أي كان لدرسها في سبيل بناء أسواق مسؤولة اجتماعيا. فرأس المال ليس ماليا وحسب بل الأفضل منه هو رأس المال الاجتماعي.
عند قراءة كارنيه نخرج مذهولين من كم الانتقادات اللاذعة التي وجهها لكل النظريات التي تعلمها أكاديميات المال والاقتصاد المرموقة حول العالم، ونعيد النظر بمسلمات طالما استخدمها أصحاب المصالح كتنويم مغناطيسي للعموم حتى يستطيع {الخواص} «تكييش ما يمكن تكييشه»!
الأكاذيب الثلاث
1- الاعتقاد بالاقتراض الخالي من المخاطر!
2- القول إن الأسواق تتوازن دائماً لتصحح نفسها بنفسها!
3- حسن الظن بأن في الأسواق أخلاقاً!